فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (25):

{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ} مَنْ إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها، أو موصولةٌ ما بعدها صلتُها والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع حالاً من فاعل يستطِعْ أي حالَ كونِه منكم وقوله تعالى: {طُولاً} أي غنىً وسعة أي اعتلاءً ونيلاً، وأصلُه الزيادةُ والفضلُ، مفعولٌ ليستطِعْ وقوله عز وجل: {أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} إما مفعولٌ صريح لطَولاً، فإن أعمالَ المصدرِ المنوَّنِ شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} كأنه قيل: ومن لم يستطعْ منكم أن ينال نكاحَهن، وإما بتقدير حرفِ الجرِّ أي ومن لم يستطعْ منكم غِنىً إلى نكاحهن أو لنكاحهن، فالجارُّ في محل النصبِ صفةٌ لطولاً أي طَوْلاً مُوصِلاً إليه أو كائناً له أو على نكاحهن، على أن الطَولَ بمعنى القُدرة. في القاموس الطَّوْلُ والطائلُ والطائلةُ الفَضْلُ والقُدْرَةُ والغِنَى والسَّعَةُ، ومحلُّ أن بعد حذفِ الجارِّ نَصْبٌ عند سيبويهِ والفراءِ وجرٌّ عند الكسائيِّ والأخفشِ، وإما بدلٌ من طولاً لأن الطَوْلَ فضلٌ والنكاحُ قدرةٌ، وإما مفعولٌ ليستطِعْ وطَوْلاً مصدرٌ مؤكدٌ له لأنه بمعناه، إذ الاستطاعةُ هي الطَّوْلُ، أو تمييزٌ، أي ومن لم يستطع منكم نكاحَهن استطاعةً أو من جهة الطَوْل والغِنى أي لا من جهة الطبيعةِ والمزاجِ فإن عدمَ الاستطاعةِ من تلك الجهةِ لا تعلقَ له بالمقام، والمرادُ بالمحصنات الحرائرُ بدليل مقابلتِهن بالمملوكات، فإن حريتَهن أحصَنَتْهن عن ذل الرقِّ والابتذالِ وغيرِهما من صفات القصورِ والنقصان. وقوله عز وجل: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} إما جوابٌ للشرط أو خبرٌ للموصول، والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ، والجارُّ متعلقٌ بفعل مقدرٍ حُذف مفعولُه، وما موصولةٌ أي فلينكِح امرأةً أو أمةً من النوع الذي ملكتْه أيمانُكم وهو في الحقيقة متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً لذلك المفعولِ والمحذوفِ، ومِنْ تبعيضيةٌ أي فلينكِح امرأةً كائنةً من ذلك النوعِ، وقيل: مِنْ زائدةٌ والموصولُ مفعولٌ للفعل المقدر أي فلينكِحْ ما ملكتْه أيمانُكم وقولُه تعالى: {مّن فتياتكم المؤمنات} في محل النصبِ على الحالية من الضمير المقدر في ملكت الراجعِ إلى ما، وقيل: هو المفعولُ للفعل المقدر على زيادة ومما ملكتْ متعلقٌ بنفس الفعلِ ومن لابتداء الغايةِ، أو بمحذوف وقع حالاً من فتياتكم ومِنْ للتبعيض أي فلينكِحْ فتياتِكم كائناتٍ بعضَ ما ملكت أيمانُكم والمؤمناتِ صفةٌ لفتياتكم على كل تقدير، وقيل: هو المفعولُ للفعل المقدرِ ومما ملكت على ما تقدم آنفاً ومن فتياتكم حالٌ من العائد المحذوفِ.
وظاهرُ النظمِ الكريمِ يفيد عدمَ جوازِ نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ أصلاً كما هو رأيُ أهلِ الحجازِ، وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكاً بالعمومات فمَحْمَلُ الشرطِ والوصفِ هو الأفضليةُ ولا نِزاعَ فيها لأحد، وقد رُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: ومما وسع الله على هذه الأمةِ نكاحُ الأمةِ واليهوديةِ والنصرانيةِ وإن كان موسِراً وقوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم} جملةٌ معترضةٌ جيء بها لتأنيسهم بنكاح الإماءِ واستنزالِهم من رتبة الاستنكافِ منه ببيان أن مناطَ التفاضُل ومدارَ التفاخُرِ هو الإيمانُ دون الأحساب والأنسابِ على ما نطَق به قولُه عز قائلاً: {يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} والمعنى أنه تعالى أعلمُ منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظِمُ أحوالُ العبادِ وعليه يدور فلَكُ المصالحِ في المعاش والمعادِ ولا تعلّقَ له بخصوص الحريةِ والرقِّ، فرُبّ أمةً يفوق إيمانُها إيمانَ الحرائرِ، وقولُه تعالى: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} إن أريد به الاتصالُ من حيث الدينُ فهو بيانٌ لتناسبهم من تلك الحيثيةِ إثرَ بيانِ تفاوتِهم في ذلك، وإن أريد به الاتصالُ من حيث النسبُ فهو اعتراضٌ آخرُ مؤكدٌ للتأنيس من جهة أخرى، والخطابُ في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقُبه قد روعيَ فيما سبق جانبُ اللفظِ وهاهنا جانبُ المعنى، والالتفاتُ للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخِطابات السابقةِ لحصول الترغيبِ بخطابهم أيضاً، وأياً ما كان فإعادةُ الأمرِ بالنكاح على وجه الخطابِ في قوله تعالى: {فانكحوهن} مع انفهامه من قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} حسبما ذُكر لزيادة الترغيبِ في نكاحهن، وتقييدُه بقوله تعالى: {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وتصديرُه بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذْ قد وقفتم على جلية الأمرِ فانكِحوهن بإذن مواليهن ولا تترفعوا عنهن، وفي اشتراط إذنِ الموالي دون مباشرتِهم للعقد إشعارٌ بجواز مباشرتِهن له {وآتوهنَّ أجُورَهُنَّ} أي مهورَهن {بالمعروف} متعلقٌ بآتوهن أي أدّوا إليهن مهورَهن بغير مَطْلٍ وضِرارٍ وإلجاءٍ إلى الاقتضاء واللزِّ حسبما يقتضيه الشرعُ والعادةُ ومن ضرورته أن يكون الأداءُ إليهن بإذن الموالي فيكونُ ذكرُ إيتائِهن لبيان جوازِ الأداءِ إليهن لا لكون المهورِ لهن، وقيل: أصلُه آتُوا موالِيَهن فحُذف المضافُ وأُوصل الفعلُ إلى المضاف إليه {محصنات} حال من مفعول فانكِحوهن أي حال كونِهن عفائفَ عن الزنا.
{غَيْرَ مسافحات} حالٌ مؤكدةٌ أي غيرَ مجاهراتٍ به {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} عطفٌ على مسافحات و{لا} لتأكيد ما في {غَيْرِ} من معنى النفي، والخِدْنُ: الصاحُب، قال أبو زيد: الأخدانُ الأصدقاءُ على الفاحشة والواحد خِدنٌ وخَدين والجمعُ للمقابلة بالانقسام على معنى ألا يكونَ لواحدة منهن خِدنٌ لا على معنى ألا يكونَ لها أخدانٌ، أي غيرَ مجاهراتٍ بالزنا ولا مُسِرّاتٍ له وكان الزنا في الجاهلية منقسماً إلى هذين قسمين {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي بالتزويج وقرئ على البناء للفاعل أي أحصَنَّ فزوجَهن أو أزواجَهن {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} أي فعلْن فاحشةً وهي الزنا {فَعَلَيْهِنَّ} وجبَ عليهن شرعاً {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائرِ الأبكارِ {مّنَ العذاب} من الحد الذي هو جَلدُ مائةٍ فنصفُه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصانِ، فالمرادُ بيانُ عدمِ تفاوتِ حدِّهن بالإحصان كتفاوت حدِّ الحرائرِ، فالفاءُ في {فَإِنْ أَتَيْنَ} جواب إذا، والثانيةُ جوابُ إنْ والشرطُ الثاني مع جوابه مترتبٌ على وجود الأولِ كما في قولك: إذا أتيتَني فإنْ لم أكرِمْك فعبدي حرٌّ {ذلك} أي نكاحُ الإماءِ {لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} أي لمن خاف وقوعَه في الإثم الذي تؤدّي إليه غلبةُ الشهوةِ، وأصلُ العنَتِ انكسارُ العظْمِ بعد الجبْرِ فاستُعير لكل مشقةٍ وضررٍ يعتري الإنسانَ بعد صلاحِ حالِه ولا ضررَ أعظمُ من مُواقَعه المآثمِ بارتكاب أفحشِ القبائحِ وقيل: أريد به الحدُّ لأنه إذا هَوِيَها يخشى أن يواقِعَها فيُحَدَّ.
والأولُ اللائقُ بحال المؤمنِ دون الثاني لإيهامه أن المحذورَ عنده الحدُّ لا ما يوجبه {وَأَن تَصْبِرُواْ} أي عن نكاحهن متعفِّفين كآفّين أنفسَكم عما تشتهيه من المعاصي {خَيْرٌ لَّكُمْ} من نكاحهن وإن سبَقَت كلمةُ الرُّخصةِ فيه لما فيه من تعريض الولدِ للرق، قال عمرُ رضي الله عنه: «أيُّما حرَ تزوّج بأمة فقد أرَقَّ نصفَه». وقال سعيد بن جبير: «ما نكاحُ الأمةِ من الزنا إلا قريبٌ». ولأن حقَّ المولى فيها أقوى فلا تخلُصُ للزوج خُلوصَ الحرائرِ ولأن المولى يقدِرُ على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضَرِ وعلى بيعها للحاضرِ والبادي وفيه من اختلال حالِ الزوجِ وأولادِه ما لا مزيدَ عليه، ولأنها مُمتهنةٌ مبتذَلةٌ خرّاجةٌ ولاّجةٌ، وذلك كلُّه ذلٌّ ومهانةٌ ساريةٌ إلى الناكح، والعزةُ هي اللائقةُ بالمؤمنين ولأن مَهرَها لمولاها فلا تقدِر على التمتع به ولا على هِبته للزوج فلا ينتظم أمرُ المنزلِ وقد قال عليه السلام: «الحرائِرُ صلاحُ البيتِ والإماءُ هلاكُ البيتِ» {والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في المغفرة فيغفرُ لمن لم يصبِرْ عن نكاحهن ما في ذلك من الأمور المنافيةِ لحال المؤمنين {رَّحِيمٌ}
مبالغٌ في الرحمة ولذلك رَخّص لكم في نكاحهن.

.تفسير الآية رقم (26):

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}
{يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من الأحكام وبيانِ كونِها جاريةً على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين، قيل: أصلُ النظمِ الكريمِ يُريد الله أن يبين لكم فزيدت اللامُ لتأكيد معنى الاستقبالِ اللازمِ للإرادة، ومفعولُ يبين محذوفٌ ثقةً بشهادة السباقِ والسياقِ، أي يريد الله أن يبين لكم ما هو خفيٌ عنكم من مصالحكم وفضائلِ أعمالِكم أو ما تعبَّدَكم به من الحلال والحرامِ، وقيل: مفعولُ يريد محذوفٌ تقديرُه يريد الله تشريعَ ما شرَع من التحريم والتحليلِ لأجل التبيينِ لكم، وهذا مذهبُ البصريين ويعزى إلى سيبويهِ، وقيل: إن اللامَ بنفسها ناصبةٌ للفعل من غير إضمارِ أن وهي وما بعدها مفعولٌ للفعل المتقدمِ فإن اللامَ قد تقام مَقامَ أن في فعل الإرادةِ والأمرِ فيقال: أردت لأذهبَ وأن أذهبَ وأمرتك لتقومَ وأن تقوم، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} وفي موضع: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} وقال تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} وفي موضع: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} وفي آخر: {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أن أعدل بينكم وهذا مذهبُ الكوفيين، ومنعه البصريون وقالوا: إن وظيفةَ اللامِ هي الجرُّ والنصبُ فيما قالوا بإضمار أن أي أُمِرنا بما أمرنا لنُسلم ويريدون ما يريدون ليطفئوا، وقيل: يؤوّل الفعلُ الذي قبل اللامِ بمصدر مرفوعِ بالابتداء ويُجعل ما بعده خبراً له، كما في: «تَسْمَعُ بالمُعَيْديّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ» أي أن تسمَعَ به، ويُعزى هذا الرأيُ إلى بعض البصْريين {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} إذا أنبتم إليه تعالى عما يقع منكم من التقصير والتفريطِ في مراعاة ما كُلّفتموه من الشرائع فإن المكلفَ قلما يخلو من تقصير يستدعي تلافِيَه بالتوبة، ويغفرُ لكم ذنوبَكم أو يُرشدُكم إلى ما يردعكم عن المعاصي ويحثُكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارةً لسيئاتكم وليس الخطابُ لجميع المكلفين حتى يتخلفَ مرادُه تعالى عن إرادته فيمن لم يتُبْ منهم بل لطائفة معينةٍ حصَلت لهم هذه التوبةُ {والله عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلم بالأشياء التي من جملتها ما شرَع لكم من الأحكام {حَكِيمٌ} مُراعٍ في جميع أفعالِه الحكمةَ والمصلحةَ.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}
{والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} جملةٌ مبتدأةٌ مَسوقةٌ لبيان كمالِ منفعةِ ما أراده الله تعالى وكمالِ مضرّةِ ما يريد الفَجَرةُ لا لبيان إرادتِه تعالى لتوبته عليهم حتى يكونَ من باب التكريرِ للتقرير، ولذلك غُيّر الأسلوبُ إلى الجملة الاسميةِ دلالةً على دوام الإرادةِ ولم يُفعلْ ذلك في قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات} للإشارة إلى الحدوثِ وللإيماء إلى كمالِ المباينةِ بين مضموني الجملتين كما مر في قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ} الآية، والمراد بمتّبعي الشهواتِ الفَجَرةُ فإن اتّباعَها الائتمارُ بها، وأما المتعاطي لما سوّغه الشرعُ من المشتهَيات دون غيرِه فهو متّبعٌ له لا لها، وقيل: هم اليهودُ والنصارى، وقيل: هم المجوسُ حيث كانوا يُحِلون الأخواتِ من الأب وبناتِ الأخِ وبناتِ الأختِ فلما حرَّمهن الله تعالى قالوا: فإنكم تُحِلون بنتَ الخالةِ مع أن العمةَ والخالةَ عليكم حرامٌ فانكِحوا بناتِ الأخِ والأختِ فنزلت {أَن تَمِيلُواْ} عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهواتِ واستحلالِ المحرماتِ وتكونوا زناةً مثلَهم، وقرئ بالياء التحتانية والضميرُ للذين يتبعون الشهواتِ {مَيْلاً عَظِيماً} أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئةً على نُدرة بلا استحلالٍ.
{يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} بما مر من الرُخَص فيما في عهدتكم من مشاقّ التكاليفِ، والجملةُ مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} عاجزاً عن مخالفة هواه غيرَ قادرٍ على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبِرُ عن اتباع الشهواتِ ولا يستخدم قواه في مشاقِّ الطاعاتِ. وعن الحسن أن المرادَ ضَعفُ الخِلْقةِ، ولا يساعده المقام، فإن الجملةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من التخفيف بالرُخصة في نكاح الإماءِ، وليس لضعف البُنيةِ مدخلٌ في ذلك، وإنما الذي يتعلق به التخفيفُ في العبادات الشاقةِ. وقيل: المراد به ضعفُه في أمر النساءِ خاصة حيث لا يصبِرُ عنهن، وعن سعيد بن المسيِّب: ما أيِسَ الشيطانُ من بني آدمَ قطُّ إلا أتاهم من قبل النساءِ فقد أتى عليَّ ثمانون سنةً وذهبت إحدى عينيَّ وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوفَ ما أخاف على نفسي فتنةُ النساءِ.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {وخَلَق الإنسانَ} على البناء للفاعل والضميرُ لله عز وجل، وعنه رضي الله عنه: ثماني آياتٍ في سورة النساء هنّ خيرٌ لهذه الأمةِ مما طلعت عليه الشمسُ وغربت {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ} {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} شروعٌ في بيان بعضِ الحرماتِ المتعلقةِ بالأموال والأنفسِ إثرَ بيانِ الحرماتِ المتعلقةِ بالأبضاع، وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيهِ لإظهار كمالِ العنايةِ بمضمونه والمرادُ بالباطل ما يخالف الشرعَ كالغصب والسرقةِ والخيانةِ والقِمارِ وعقودِ الربا وغيرُ ذلك مما لا يُبِحْه الشرعُ، أي لا يأكلْ بعضُكم أموالَ بعض بغير طريقٍ شرعي {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} استثناءٌ منقطِعٌ، وعن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لتجارةً أي إلا أن تكون التجارةُ تجارةً صادرةً عن تراض كما في قوله:
إذا كان يوماً ذا كواكِبَ أشْعَنا

أي إذا كان اليومُ يوماً الخ، أو إلا أن تكون الأموالُ أموالَ تجارة، وقرئ {تجارةٌ} بالرفع على أنّ كان تامةٌ أي ولكن اقصِدوا كونَ تجارةً عن تراض أي وقوعَها، أو ولكن وجودَ تجارةً عن تراض غيرِ منهيَ عنه، وتخصيصُها بالذكر من بين سائرِ أسبابِ المُلكِ لكونها معظَمَها وأغلبَها وقوعاً وأوفقَها لذوي المروءاتِ، والمرادُ بالتراضي مراضاةُ المتبايعَيْن فيما تعاقدا عليه في حال المبايعةِ وقتَ الإيجابِ والقبولِ عندنا، وعند الشافعيِّ رحمه الله حالةَ الافتراقِ عن مجلس العقد.
{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي مَنْ كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلَّهم كنفس واحدةٍ، وعن الحسن: لا تقتُلوا إخوانَكم، والتعبيرُ عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعلُه عاقلٌ، أو لا تُهلِكوا أنفسَكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يُفضي إليه فإنه القتلُ الحقيقيُّ كما يُشعِرُ به إيرادُه عَقيبَ النهي عن أكل الحرامِ فيكونُ مقرَّراً للنهي السابقِ، وقيل: لا تقتلوا أنفسَكم بالبخْع كما يفعله بعضُ الجهلةِ، أو بارتكاب ما يؤدي إلى القتل من الجنايات، وقيل: بإلقائها في التهلُكة، وأُيِّد بما رُوي عن عمْرو بنِ العاص أنه تأوله بالتيمم لخوف البردِ فلم يُنْكر عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقرئ {ولا تُقتِّلوا} بالتشديد للتكثير، وقد جُمع في التوصية بين حفظِ النفسِ وحفظِ المالِ لما أنه شقيقُها من حيث إنه سببٌ لقِوامها وتحصيلِ كمالاتِها واستيفاءِ فضائلِها، وتقديمُ النهي عن التعرض له لكثرة وقوعِه {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} تعليل للنهي بطريق الاستئنافِ أي مبالغاً في الرحمة والرأفةِ، ولذلك نهاكم عما نهاكم عنه، فإن في ذلك رحمةً عظيمةً لكم بالزجر عن المعاصي وللذين هم في معرِض التعرُّض لهم بحفظ أموالِهم وأنفسِهم، وقيل: معناه إنه كان بكم يا أمةَ محمدٍ رحيماً حيث أمرَ بني إسرائيلَ بقتلهم أنفسَهم ليكون توبةً لهم وتمحيصاً لخطاياهم ولم يكلِّفْكم تلك التكاليفَ الشاقةَ.